سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
هل يشرع القنوت في الصلاة لرفع الوباء
قبلَ الكَلام على هذه المسألة نبيِّن أولًا مشروعية الدُّعاء مطلقًا لرفعه بغير قيد : القنوت في الصلاة
فاعلم أنَّ الدعاءَ بالسلامة منه ورفعه مشروعٌ ، وهو محل اتفاق بين عامّة أهل العلم.
فيدعو المسلم ويدعو المسلمون في صلاتهم في السُّجود ونحوه ، ويدعو المسلمون أيضًا خارج الصلاة في محالّ وأوقات استجابة الدعاء برفع الوباء عنهم.
وقد بوَّب الإمام البخاري (بَابُ مَنْ دَعَا بِرَفْعِ الوَبَاءِ وَالحُمَّى) ثم ساق بسنده (5677) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله ﷺ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ الله ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالجُحْفَةِ».
وبوَّب الإمام البخاري أيضًا (بَابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الوَبَاءِ وَالوَجَعِ) ثم ساق بسنده (6372) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا».
قال ابنُ بطال في شرح صحيح (9/393): «فيه من الفقه: جواز الدعاء إلى الله تعالى فى رفع الوباء والحمَّى والرغبة إليه فى الصِّحة والعافية، وهذا ردٌّ على الصوفية فى قولهم: إنَّ الولى لا تتمّ له الولاية إلا إذا رضى بجميع مانزل به من البلاء ولا يدعُ الله فى كشفه!!».
وقال النووي في شرح مسلم: «وفيه الدعاء للمسلمين بالصِّحة ، وطيب بلادهم ، والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد عنهم ، وهذا مذهب العلماء كافة .
قال القاضي : «وهذا خلاف قول بعض المتصوِّفة إن الدعاء قدح في التوكُّل والرضا ! وأنه ينبغي تركه، وخلاف قول المعتزلة: إنه لا فائدة في الدعاء مع سبق القدر . ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة ولا يستجاب منه إلا ما سبق به القدر والله أعلم».
وقال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/330): «وفيه من الفقه: جواز الدعاء إلى الله في رفع الوباء والحمى والرغبة إليه في الصحة والعافية».
وقال في (29/ 314): «وفي دعائه - عليه الصلاة والسلام - برفع الوباء والوجع : رد على من زعم أن الولي لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومَن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله!!
ولا خفاء بسقوط هذا؛ لأنه - عليه السلام - قال: «اللهم حبب إلينا المدينة وانقل حماها» فدعا بنقلها عن المدينة ومن فيها، وهو داخل في تلك الدعوة، ولا توكُّل أحَدٍ يبلغُ توكُّلَه ﷺ، فلا معنى لقولهم».
وقال ابنُ حجر في فتح الباري : «وقد استشكل بعضُ الناس الدعاء برفع الوباء :
- لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت والموت حتمٌ مقضي ، فيكون ذلك عبثا.
وأجيب: بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع المرض وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من : «الجنون والجذام وسيء الأسقام». و«منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء». فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن يُنكر التداوي بالعقاقير . ولم يقل بذلك إلا شذوذ.
والأحاديث الصحيحة ترد عليهم . وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره : لما فيه من الخضوع والتذلُّل للرب سبحانه . بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالا على ما قُدّر فيلزم ترك العمل جملةً ، ورد البلاء بالدعاء كردِّ السهم بالترس، وليس من شرط الإيمان بالقدر أنْ لا يتترس من رُمي بالسهم والله أعلم».
وإذا تقرر هذا :
فاعلم أنَّ في مشروعية القنوت لرفع الوباء خلاف بين العلماء. وذلك أنَّ القنوت يشتمل على أفعال في الصَّلاة: قبل الركوع أو بعد الركوع، من الدعاء نفسه، والجهر به، ورفع اليدين، وتأمين المأمومين على دعاء الإمام، وطول الاعتدال، ونحو ذلك.
ولا نعلم فيه دليلًا صريحًا، ولهذا اختلفتْ أفهامُ العلماء هل يُلحق انتشار الوباء بما ثبت القنوت فيه في السنَّة المطهرة.
والقنوت في النوازل كما في القنوت على الأعداء، والكفرة إذا اشتدت وطأتهم على المسلمين، مذهب أكثر أهل العلم. لحديث أنس رضي الله عنه قال: «قَنَتَ رَسُولُ الله ﷺ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا، إِلَى قَوْمٍ مِنَ المُشْـركِينَ -أي فقتلوهم - فَقَنَتَ رَسُولُ الله ﷺ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ». وفي لفظ: «دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَلِحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهِ وَرَسُولَهُ». متفق عليه.
ومن حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ كان بعد الرفع من الركوع يقول وَهُوَ قَائِمٌ: «اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ» متفق عليه.
فمَنْ حقَّق المناط في الفرع أي : في مسألتنا : قال بالمشروعية. ومَن منع القياس في العبادات أصلًا، أو لم يحقِّق المناط في الفرع ومنعه : منع الإلحاق.
ولهذا ففي مشروعيته قولان:
القول الأول: مشروعية القنوت . وهو قول الحنفية، والشافعية، وبعض الحنابلة.
قال ابنُ نجيم من الحنفية في الأشباه والنظائر (331 وبعد): (فائدة: في الدعاء برفع الطاعون).
سُئِلتُ عنه في طاعون سنة تسع وستين وتسع مائة بالقاهرة فأجبت بأني لم أره صريحًا، ولكن صرح في الغاية وعزاه الشُّمنّي إليها : بأنه إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الفجر، وهو قول الثوري وأحمد، وقال جمهور أهل الحديث: القنوت عند النوازل مشروع في الصلاة كلها (انتهى).
وفي فتح القدير : أنَّ مشروعية القنوت للنازلة مستمر لم يُنسخ، وبه قال جماعة من أهل الحديث وحملوا عليه حديث أبي جعفر عن أنس رضي الله عنهما «ما زال رسول الله ﷺ يقنت حتى فارق الدنيا» أي عند النوازل. وما ذكرنا من أخبار الخلفاء يفيد تقرّره لفعلهم ذلك بعده ﷺ . وقد قنت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة رضي الله عنهم مسيلمة الكذاب، وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنت عمر رضي الله عنه (انتهى) . فالقنوت عندنا في النازلة ثابت، وهو : الدعاء برفعها.
ولا شك أنَّ الطاعون من أشد النوازل، قال في المصباح: النازلة المصيبة الشديدة تنزل بالناس (انتهى) .
وفي القاموس: النازلة الشديدة (انتهى). وفي الصحاح: النازلة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس (انتهى) . وذكر في السراج الوهاج قال الطحطاوي: ولا يقنت في الفجر عندنا من غير بلية.
فإن وقعت بلية فلا بأس به كما فعل رسول الله ﷺ فإنه قنت شهرا فيها، يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان ثم تركه، كذا في الملتقط (انتهى) ». انتهى كلام ابن نجيم، ثم ذكر الكلام على مسألة هل يشـرع لرفع الوباء صلاة خاصة مستقلة؟!. وسننقل كلامه على هذه المسألة إن شاء الله .
ومن كلام الشافعية:
قال في روضة الطالبين (1/254) : «أما غير الصبح من الفرائض ففيها ثلاثة أقوال: المشهور: أنه إن نزل - والعياذ بالله - بالمسلمين نازلة، كالوباء والقحط، قنتوا، وإلا فلا، والثاني: يقنتون مطلقا، والثالث: لا يقنتون مطلقًا».
وفي روض الطالب مع أسنى المطالب (1/ 158): «(فَصْلٌ الْقُنُوتُ مُسْتَحَبٌّ بَعْدَ) التَّحْمِيدِ (وَكَذَا سَائِرُ الْفَرَائِضِ) أَيْ الْمَكْتُوبَاتِ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ بَعْدَ التَّحْمِيدِ فِي اعْتِدَالِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا (عِنْدَ النَّازِلَةِ) لَوْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ خَوْفٍ، أَوْ قَحْطٍ، أَوْ وَبَاءٍ، أَوْ جَرَادٍ».
قال الرملي في الحاشية: «(قَوْلُهُ: أَوْ وَبَاءٌ) التَّعْبِيرُ بِالْوَبَاءِ يَقْتَضِي إلْحَاقَ الطَّاعُونِ بِهِ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالْقُنُوتِ لِلطَّاعُونِ ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ مَنْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَقْنُتُوا لَهُ وَيُحْتَمَلُ الْجَوَابُ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ : «دَعَا بِصَرْفِ الطَّاعُونِ عَنْ الْمَدِينَةِ وَنَقْلِ وَبَائِهَا إلَى الْجُحْفَةِ».
وقال في نهاية المحتاج شرح المنهاج (1/ 508) : « ... أي يستحب (القنوت) مع ما مرَّ أيضا (في سائر المكتوبات) أي باقيها من الخمس في اعتدال الركعة الأخيرة (للنازلة) إذا نزلت ، بأن نزلت بالمسلمين وسواء فيها الخوف من نحْوِ عدوّ ولو مسلمين كما هو ظاهر ، والقحط والجراد ونحوها كالوباء وكذا الطاعون كما يميل إليه كلام الزَّركشي أخذا من «أنه ﷺ دعا بصرفه عن أهل المدينة» ، وبه أفتى الوالد رحمه الله تعالى تبعًا لبعضهم، وأشار لردِّ قول الأذرعي : المتجه عندي المنع لوقوعه في زمن عمر ولم يقنتوا له . حيث قال: لا ريبَ أنه من النوازل العظام لما فيه من موت غالب المسلمين وتعطُّل كثير من معايشهم، وشهادة من مات به: لا تمنع كونه نازلة، كما أنا نقنتُ عند نازلة العدو وإن حصَلَت الشهادة لمن قُتل منهم، وعدم نقله عن السلف لا يلزم منه عدم الوقوع ، وعلى تسليمه : فيُحتمل أنهم تركوه إيثارا لطلب الشهادة، ثم قال: بل يُسنُّ لمن لم ينزل بهم الدُّعاء لمن نزل بهم اهـ. ويستحب مراجعة الإمام الأعظم أو نائبه بالنسبة للجوامع فإن أمر به وجب، ويسن الجهر به». انتهى المراد من كلامه.
وقد ذكر ابن مفلح، والمرداوي من الحنابلة ما يفيد أنَّ المشروعية قول عندهم، وسيأتي بنصه في القول الثاني.
القول الثانـي: عدم مشروعية القنوت في الصلاة لرفع الوباء.
وهو قول المالكية، وقول عند الشافعية، وهو ظاهر مذهب الحنابلة ، وطائفة من أهل العلم.
من كلام المالكية: ما في الدسوقي على الشرح الكبير (1/248): «وَلَا يُفْعَلُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَغَلَاءٍ أَوْ وَبَاءٍ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ لِذَلِكَ . لَكِنْ لَوْ وَقَعَ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ كَمَا قَالَ سَنَدٌ . وَالظَّاهِرُ: أَنَّ حُكْمَ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ الْكَرَاهَة».
وسبق قريبًا ما يفيد منع المشروعية عند بعض الشافعية. كما في نهاية المحتاج.
ومن كلام الحنابلة: قال ابن مفلح في الفروع مع التصحيح وابن قندس (2/367): «ويتوجه لا يقنت لدفع الوباء في الأظهر ، لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس، ولا في غيره، ولأنه شهادة؛ للأخبَار، فلا يسألُ رفعَه!». وذكره في شرح منتهى الإرادات (1/ 242) وسكت عليه.
وقال المرداوي في الإنصاف (4/ 138-139): «تنبيه: قد يقالُ: ظاهِرُ كلامِ المُصَنفِ وغيرِه، أنَّه يقْنُتُ لرَفْع الوَباءِ؛ لأنه شَبِية بالنَّازِلَةِ وهو ظاهرُ ما قدَّمه في «الفروعِ». وقال: ويتَوجَّهُ أنَّه لا يقْنتُ لرَفْعه، في الأظْهَرِ؛ لأنَّه لم يثْبُتِ القنوت في طاعُونِ عِمْواسٍ ولا في غيرِه، ولأنه شَهادَة للأخْيارِ، فلا يسْأل رفْعه. انتهى».
وفي كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 421) : «(فإن نزل بالمسلمين نازلة) هي الشديدة من شدائد الدهر (غير الطاعون) ؛ لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا في غيره ولأنه شهادة للأخيار فلا يسأل رفعه (سُنّ لإمام الوقت خاصَّة) ؛ لأنه ﷺ هو الذي قنت فيتعدى الحكم إلى من يقوم مقامه (واختار جماعة ونائبه) لقيامه مقامه (القنوت بما يناسب تلك النازلة في كل مكتوبة)».
وفي الروض مع الحاشية (2/198): «(إلا أن ينزلَ بالمسلمين نازلة) من شدائد الدهر (غير الطاعون) لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس، ولا في غيره، ولأنه شهادة».
قال العلَّامة العثيمين في الشرح الممتع (4/ 42 - 43): «قوله: «إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة ... » هذه الجملة استثناء من قوله: «ويُكره قُنُوتُهُ في غير الوِتْرِ». والنَّازلة: هي ما يحدث من شدائد الدَّهر.
قوله: «غير الطَّاعون» الطَّاعون: وباءٌ معروف فَتَّاكٌّ مُعْدٍ، إذا نَزَلَ بأرضٍ فإنه لا يجوز الذَّهابُ إليها، ولا يجوز الخُروجُ منها فِراراً منه؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سَمعتُم به في أرضٍ فلا تَقْدَمُوا عليها، وإنْ وَقَعَ وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فِراراً منه» وهذا الطَّاعون ـ نسأل الله العافية ـ إذا نَزَلَ أهلك أُمماً كثيرة، كما في «طاعون عَموَاس» الذي وقع في الشَّام، في عهد عُمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه.
وهذا النَّوع من الوباء إذا نَزَلَ بالمسلمين فقد اختلف العُلماءُ رحمهم الله هل يُدعى بِرَفْعِهِ أم لا؟
فقال بعضُ العلماءِ: إنه يُدْعَى برَفْعِهِ؛ لأنَّه نازلةٌ مِن نوازل الدَّهر، وأيُّ شيءٍ أعظمُ مِن أنْ يُفني هذا الوباءُ أمَّةَ محمَّدٍ، ولا مَلجأ للنَّاس إلا إلى الله عزّ وجل، فيدعون الله ويسألونه رَفْعَهُ.
وقال بعضُ العلماءِ: لا يُدعَى برَفْعِهِ. وعلَّل ذلك: بأنه شهادة، فإن الرَّسول ﷺ أخبر: «بأنَّ المَطْعُونَ شَهيدٌ» قالوا: ولا ينبغي أنْ نَقْنُتَ مِن أجْلِ رَفْعِ شيءٍ يكون سبباً لنا في الشَّهادة، بل نُسَلِّمُ الأمرَ إلى الله، وإذا شاء اللهُ واقتضت حكمتُه أنْ يرفعَه رَفَعَهُ، وإلا أبقاه، ومَن فنيَ بهذا المرض فإنَّه يموت على الشَّهادة التي أخبر عنها النبيُّ ﷺ». انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: يظهر لي أنه يجوز القنوت في الصَّلاة والدعاء برفعه، لأنه يجوز الدعاء من حيث هو برفعه في الصَّلاة وخارج الصلاة، وكون القياس لا يدخل في العبادات هذا محلّه أصل العبادة لأنَّ العبادات مبنية على التوقيف، فلا نقيس مثلًا صلاة على صلاة فنقول بمشروعية صلاة لم يأت في مشـروعيتها نص، أما الشروط والأسباب والموانع ونحوها فكلام الأصوليين كثير معروف في محله في جريان القياس فيها، وذلك يشمل العبادات وغيرها. وأنت تعلم أنَّ العلماء يذكرون هذا الفصل بعنوان: القنوت في النوازل. ويذكرون أشياء يُشرع القنوت فيها. وهذا من القياس في الأسباب. فيكون البحث في الجواز هنا من تحقيق المناط .
وعندي أنَّ الأقوى : أنّ المشروعية هنا من تنقيح المناط، فإذ قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنَّ النبي ﷺ قنت شهرًا يدعو على قوم من المشركين، وفي بعضها: يدعو لقوم. كما سبق، مع أنَّ المشـركين يمكن مدافعتهم بالأسباب الحسيَّة بقتالهم. والمؤمنين: يمكن فِعْل الأسباب الحسية: بنصرتهم.
ومع هذا ؛ قنت النبي ﷺ . مع إمكان السبب الحسِّـي الذي يدفع النازلة أصلًا. فمِن بَاب أولى - أو مساوي على الأقل - : ما لا يُمكن دفعه من النوازل، فإنَّ الوباءَ لا قِبَل لأحد في دفعه، وليس ذلك إلا إلى الله تعالى. ومضى في ”النهاية“ بعض أوجه التنقيح للإلحاق، فراجعه.
ومفهوم الموافقة عند الأكثرين من الدلالة اللفظية ، أي: من المنطوق غير الصريح ، وليست قياسية.
ولا ريب في مشروعية الدُّعاء في الصلاة لرفعه. كما تقدَّم، والله أعلم.
فائدة: متى يشرع القنوت في الصَّلاة، ولمن؟
قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع (4/44): «يقنت الناس مع الإمام أو نائبه. قالوا: لأنَّ الرَّسول ﷺ قَنَتَ عند النَّوازل ولم يأمر أحدًا بالقنوت، ولم يقنتْ أحدٌ من المساجد في عهده ﷺ ولأن هذا القنوت لأمر نزل بالمسلمين عامَّة، والذي له الولاية العامَّة على المسلمين هو الإمام فيختصُّ الحكم به، ولا يُشـرع لغيره. وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني في المسألة: أنه يقنت كلُّ إمام.
القول الثالث: أنه يقنت كلُّ مصلٍّ، الإمام والمأموم والمنفرد.
والأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدلَّ بعموم قوله ﷺ: «صَلُّوا كما رأيتُمُوني أُصَلِّي». وهذا العمومُ يشمَلُ ما كان النبيُّ ﷺ يفعلُه في صلاتِهِ على سبيل الاستمرار، وما يفعلُه في صلاتِهِ على سبيل الحوادث النَّازلةِ، فيكون القنوتُ عند النَّوازِلِ مشروعاً لكلِّ أحد.
ولكن الذي أرى في هذه المسألة: أنْ يُقتصرَ على أَمْرِ وليِّ الأمْرِ، فإن أَمَرَ بالقُنُوتِ قنتنا، وإن سكتَ سكتنا، ولنا ـ ولله الحمد ـ مكانٌ آخر في الصَّلاة ندعو فيه؛ وهو السُّجودُ والتَّشَهُّدُ، وهذا فيه خيرٌ وبَرَكَةٌ، فأقرب ما يكون العبدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجد، لكن؛ لو قَنَتَ المنفردُ لذلك بنفسه لم نُنْكر عليه؛ لأنه لم يخالف الجماعة».
مسألة: هل يشرع الاجتماع للدعاء في المنازل أو الطرقات ونحو ذلك برفع الوباء؟.
أي: بصوت واحد ، بحيث يدعو الناس المجتمعون كلُّهم بصَوت واحد ، ملحَّنًا أو غير ملحَّن، بصوت مرتفع ، أو يدعو أحدُهم بمكبِّر وبقية الناس يؤمنون عليه، ونحو ذلك؟
قال بجواز هذا بعضُ الحنفية. حكاهُ ابن نجيم كما في الأشباه والنظائر.
وجزم طائفة من العلماء أنه بدعة. وهو الصواب.
قال في غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (4/136): «قوله: وصرح ابنُ حجر بأن الاجتماع للدُّعاء برفعه بدعة ... إلخ) أقول: ما قاله ابن حجر: هو الحق الذي لا مرية فيه، فإنَّ تعريفَ البدعة صادقٌ عليه».
مسألة: محل القنوت:
في الاعتدال بعد الركوع، مِنْ كل الصَّلوات. ويُشرع رفْع الإيدي عند الدعاء للإمام والمأموم. ويشرع تأمين المأموم على الدعاء.
كتبه
أبو محمَّد عبدالله بن لمح الخولاني
مكة المكرمة
غرة شعبان عام 1441 هـ